الأسس الفكرية للعيش المشترك في الإسلام
إنَّ العيش المشترك بين أبناء المجتمع، وبين الشعوب الإنسانية هو غاية نبيلة تسعى لها سائر الأديان والشرائع الدينية، ويدعو لها العقلاء والحكماء في سائر العالم. وإنه لمن المهم أمام المشكلات والتحديات التي تعيشها البشرية في علاقات الناس بعضهم ببعض أن يتم التأكيد على أهمية العيش المشترك ومقتضياته.
وقبل بيان موقف الإسلام من حق الإنسان في العيش المشترك مهما كان دينه، ولونه، وعرقه لا بد من طرح الأسئلة الآتية:
طبعا الإجابة عن كل ما سبق أنه ليس ممكناً؛ لأنَّ كل طرف يرى في هويته العميقة الجدارة وأهلية الاستمرار، كما أنَّ انعزال الإنسان عن أخيه الإنسان المختلف معه في الدِّين سيؤثر سلباً على حالة الوحدة والتعاون في المجتمع، كما أنَّ محاولات الدمج والتذويب، على الصعيد العملي، إلّا للمزيد من التشبث بالخصوصيات وكل ما هو مميز للذات عن الآخر.
لكن الأمر الممكن هو أنْ الإنسان بإمكانه أنَّ يعيش حياة مشتركة وسليمة مع الآخر بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه.
فالعيش مع الآخرين أضحى اليوم ضرورة، ولا فكاك منها. لذلك كيف يمكن صياغة حياتنا الاجتماعية والعامة وفق هاتين الحاجتين:
حاجة الاختلاف والتمايز على صعيد الهوية. وحاجة التعايش المشترك مع الآخر المختلف والمغاير، وما موقف الإسلام من حق العيش المشترك؟
أولا: الاختلاف سنة إلهية كونية:
يقر الإسلام أنَّ الاختلاف في الدِّين والرؤية والنظرة إلى الأشياء من نواميس الحياة وسننها. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور الحياة من دون هذه الاختلافات والتمايزات والتنوعات، قال تعالى: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، (هود: 118).
لهذا نحن بحاجة إلى أن نبحث في صياغة أخرى للحل والمعالجة، لا تلغي حق الاختلاف والتنوع والتعددية، كما أنها لا تشرع للانحباس والعزلة أو للفوضى والانفلاش.
ثانيا: الحوار بين أصحاب الديانات:
يؤمن الإسلام بالتحاور والتعاون بين أصحاب الديانات في القضايا المشتركة فهو الطريق إلى ترسيخ العيش المشترك وتجذيره، وعلى رأس هذه القضايا حق المواطنة لكل المواطنين وبيان موقف الدين منه، وقد أقرت وثيقة المدينة المنورة هذا الحق بكل وضوح لكل سكانها مهما كانت أديانهم ومعتقداتهم.
إننا نشعر بأهمية العيش المشترك، وتوطيد أسس التلاقي والتعاون، ولكن طريق ذلك لا يمر عبر المماحكات والسجالات العقيمة، وإنما عبر تعزيز قيم المواطنة ومتطلبات العيش المشترك.
ثالثا: صيانة حقوق الإنسان:
لا يمكننا على المستوى العملي من صياغة العلاقة على نحو إيجابي بين حق الاختلاف وضرورات العيش المشترك، إلا بالإعلاء من شأن حقوق الإنسان، والعمل على صيانة هذه الحقوق، بعيداً عن التمايزات الأيدلوجية أو الاختلافات الفكرية والسياسية. فالعلاقة جد عميقة بين مبدأ العيش المشترك ومفهوم حقوق الإنسان، حيث إن حقوق الإنسان بكل ما تحتضن من قيم ومتطلبات وحاجات، هي الحاضن الأكبر للمشروع المشترك؛ لذلك من الضروري أن نعتني بخلق الوعي الحقوقي، القادر على صيانة كرامة الإنسان ولابد أن يدرك الجميع أن قيم الدين العليا لا يمكن أن تشرع للعسف والإكراه وانتقاص حقوق الإنسان. فالدين الإسلامي بكل نظمه وتشريعاته، جاء من أجل تحرير الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته. لذلك فإن الدين هو الرافد الأول الذي ننتزع منه حقوق الإنسان الأساسية.
فبوابة العيش المشترك في كل الأمم والمجتمعات، هي صيانة حقوق الإنسان وحماية كرامته وتعزيز حضوره ودوره في مشروعات التنمية والعمران.
والاختلاف في الهوية أو الانتماء الأيدلوجي أو القناعات الفكرية والسياسية، لا يشرع بأي حال من الأحوال إلى انتهاك الحقوق. فالاختلافات ليست سبباً أو مدعاة لنقصان الحقوق، وإنما تبقى حقوق الإنسان مصانة وفق مقتضيات العدالة ومتطلبات العيش المشترك.
فالعيش المشترك ليس ادّعاء يدعى، وإنما هو مجموعة من الحقائق والمتطلبات تفضي إلى صياغة الواقع الاجتماعي المتعدد على أساس الحوار والاحترام المتبادل ونبذ ثقافة الكراهية والمفاضلة الشعورية، وتعميق ثقافة العفو وحسن الظن والتسامح، فالعيش المشترك هو مشروع مفتوح على كل المبادرات والخطوات الإيجابية، التي تستهدف تنقية الفضاء الاجتماعي والثقافي من كل الشوائب، التي تعكر صفو العلاقة وتحول دون تنميتها على الصعد كافة.
رابعا: احترام المقدسات وعدم الاعتداء والاستهزاء أو المساس بها لحميع الأديان؛ لما في ذلك من تعزيز الاحترام المتبادل والعيش المشترك، بعيداً عن الاستفزاز وإشاعة العداوة، وكل ما يؤدي إلى الكراهية بين طوائف وأفراد المجتمع سواء عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المرئية أو المسموعة ووسائل الاتصال الحديثة وغيرها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
خامسا: رفض كل ما يؤدي إلى العنف أو التطرف أو الإرهاب قولًا أو سلوكًا، ويجب أن يجرَّم حسب النظم والقوانين، فإن الله قد حرم قتل الأنفس والظلم والبغي بغير الحق، فقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33]، وقال تعالى: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]
سادسا: التسليم بوحدة الأصل الإنساني، فلقد خلق الله عز وجل الناس جميعاً من أصل واحد فقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ويقتضي التسليمُ بوحدة الأصل الإقرارَ بمساواة الناس جميعاً في الاعتبار الإنساني والكرامة. والسلام
سابعاً: التعامل بالعدل والإحسان والخلق القويم والبعد عن الظلم والجور، والتزام ما يؤلف بين فئات المجتمع المختلفة، وقد أمر الله تعالى بذلك في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءابعا ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
ثامناً: الوفاء بالعهود والمواثيق؛ لأنَّ هذا يبعث على الثقة والاطمئنان بين جميع الأطراف ويدعو إلى استقرار الحياة وحفظ الحقوق، وقد جاء الأمر بذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 34]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له”
تاسعا: القول بالتعددية وحرية الاعتقاد والعبادة وهو من باب الإقرار بالحق في الاختلاف الذي يتيح للأطراف المتعددة العيش في أمن وأمان فيما يرتضونه لحياتهم، قال تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].
عاشراً: اعتماد الحوار في التواصل وحل المشكلات، وهذا هو الأسلوب الأمثل الذي يهيئ الأذهان للالتقاء على الحق، وهو ما قرره القرآن في آيات كثيرة ومواقفَ عديدةٍ في مجادلات الأنبياء لأقوامهم، وفى مقدمتهم سيدنا إبراهيم الخليل المقتدى به في الرسالات السماوية الثلاث، وما أمر الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من المجادلة بالحسنى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
إعداد: د. عامر جود الله أستاذ العقيدة الإسلامية ومقارنة الأديان- كلية الشريعة جامعة النجاح الوطنية