You are here

دراسة الأديان: وسيلة دعوية أم ضرورة معرفية؟

2082ProfileImage.jpgالدكتور عامر الحافي، أستاذ الأديان المقارنة، جامعة آل البيت -الاردن.

يدرك الدارسون لتاريخ المعرفة البشرية أن التعلّم من الأخطاء، ومراجعة الأفكار السائدة التي يحسبها الناس صحيحة، يُمثل أساساً لبناء المعرفة البشرية وتقدمها، وعلى مر العصور اعتنى المصلحون بتطوير معارفهم ونقد التصورات السائدة في مجتمعاتهم ورأوا في ذلك شرطاً أولياً للارتقاء والنهوض بمجتمعاتهم.

واليوم مع اتساع دائرة العولمة الاقتصادية والثقافية، والتسارع الكبير في تطور وسائل الاتصال وسهولة تدفق المعلومات والانفتاح على الثقافات البشرية، أصبح التنوع بكل أشكاله الثقافية والدينية سمة أساسية للمجتمعات المعاصرة، ومن أهم متطلبات النجاح في إدارة التنوع هو العمل على تطوير وتحديث معارفنا بالثقافات والمعتقدات المختلفة التي يقوم عليها ذلك التنوع المثمر.

بالإضافة لأهمية البحث العلمي في النهوض بالمجتمعات والأمم وتحقيق التنمية الشاملة، فإنه يرتقي بالعقل البشري ويسهم في تعميق المعرفة بالذات وزيادة التعارف مع الآخر والحد من الحروب والنزاعات، ويسير بالمجتمعات في مسار تصاعدي تتراكم فيه الخبرات والمعارف وتنتقل من طور إلى آخر، فالاستجابة للمتغيرات المعرفية المتتالية والعمل على تطوير المؤسسات التعليمية أصبح يمثل ضرورة حيوية وركناً أساسياً في نهوض المجتمعات وازدهارها.

تهدف الجامعات كمؤسسات علمية "مستقلة" إلى تكوين معارف طلابها وتطوير قدرات كوادرها التعليمية والإسهام في الارتقاء بمجتمعاتها. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا بد من مواجهة تحديات كثيرة تقف أمام تحقيق غاياتها وأهدافها، ومن تلك التحديات ما نجده لدى البعض من صعوبة في التمييز بين وظيفة الجامعة كمؤسسة أكاديمية تقوم على إنتاج المعرفة وتطويرها بناءً على مناهج معرفية ذات صبغة عالمية، وبين إعادة إنتاج خطابات ثقافية سائدة تُعبر عن منظومات فكرية وأيديولوجية جاهزة ومطلقة.

إن خوف الناس على ثقافتهم وهوياتهم الدينية المختلفة، هو أمر يجدر احترامه وتفهمه، لكنه لا يؤسس موقفاً فكرياً قويماً تجاه القضايا الفكرية والمعرفية، فالخوف يعطل قدرة العقل على التفكير ويحرم الإنسان من تطوير معارفه وتعارفه مع الأمم والشعوب.

يعاني بعض المنشغلين في الشأن الديني من زيادة المخاوف والهواجس تجاه التمثلات الدينية الأخرى، وإذا كانت بعض المجتمعات الغربية تعاني اليوم من مشكلة الخوف من الإسلام "الإسلاموفوبيا"، فإن بعض أبناء مجتمعاتنا العربية يعانون كذلك من خوف الغرب "الغرب فوبيا" و"العلمانية فوبيا" و"والهندوسية فوبيا" و"اليهودية فوبيا".. إلخ من الفوبيات التي تشكل حاجزاً نفسياً يعيق التعلم والتعارف مع أمم الأرض وثقافاتها الدينية والدنيوية.

يُمثل الخوف من الأفكار المخالفة أسوأ أنواع الخوف؛ لأن مساحة الوهم تتضخم بطريقة يصعب التنبؤ بها. ويزداد خوف الإنسان من الآخر وعداؤه له كلما زاد الجهل به، ويؤكد القرآن هذه المشكلة بقوله: "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ" (يونس: 39)، فتكذيب الإنسان لما لا يعلم يمثل مشكلة قديمة تحول دون بلوغ الإنسان لما ينفعه.

إن الناقد لا يكون ناقداً بصيراً إلا إذا كان عالماً بما ينتقد، خلافاً للمعاند الجاهل الذي ينتقد ما لا يعرف. ونقد الإنسان لما يجهل من معتقدات لا يقل اختلالاً عن تقليده ورضاه بما لا يعرف، فالتقليد في رفض ثقافة ومعتقدات الآخرين لا يقل سوءاً عن التقليد الساذج للأجداد والأسلاف، فكلاهما ينطوي على إهمال وتعطيل لقيمة العقل التي يمتاز بها الكائن البشري عن غيره من الكائنات. وأذكر هنا ما يقوله ابن النفيس في تأكيد أهمية نقد الأفكار السائدة والمشهورة في الثقافة السائدة: "ربما أوجب استقصاؤنا النظر عدولاً عن المشهور والمتعارف، فمن قرع سمعه خلاف ما عهد فلا يبادرن بالإنكار، فذلك طيش، فرُبَّ شنع حقٌّ، ومألوف محمود كاذبٌ، والحق حق في نفسه لا لقول الناس له".

وقريب من قول ابن النفيس يقول الإمام الغزالي في الحث على الفكر الناقد في دراسة الأديان: "وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته؛ فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غوره وغائله".

وفي نقد ثقافة التقليد للعقائد الموروثة: "وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديني، من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت عليّ العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا، إذ رأيت: صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصُّر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام".

من الأسئلة الشائعة التي تواجه الباحثين في الأديان ويتخذها البعض دليلاً على تقويض الأساس الشرعي لدراسة الأديان بقولهم: لماذا نستعمل تسمية "أديان" في حين خصّ القرآن الإسلام وحده باسم الدين في قوله تعالى: "إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإسلام" (آل عمران: 19) والاجابة عن هذا السؤال تشتمل على أربعة جوانب:

أولاً: أن كلمة الدين في اللغة العربية تطلق على معان متعددة، وذلك بحسب سياق استعمالها؛ فهي تعني: المُلك، والخدمة، والعز، والذل، والعادة، والعبادة، والخضوع، والطاعة، والشرع، والمذهب، والجزاء، والحساب، وهي اسم لكل ما يُعتقد به.

ثانياً: استعمل القرآن الكريم كلمة الدين على معان مختلفة، فالدين في قوله تعالى: "مَٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ" (الفاتحة: 4) يقصد به الحساب، وفي قوله تعالى: "ما كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ" (يوسف: 76) يقصد به الحكم، وفي قوله تعالى: "لكم دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" (الكافرون: 6)، يقصد به الاعتقاد، وفي قوله تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ" (النساء: 125) يقصد به الطاعة.

ثالثاً: أن من ذهب إلى عدم جواز إطلاق تسمية دين على غير الإسلام، بالاعتماد على قوله تعالى: "إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإسلام" (آل عمران: 19) لم يتنبه إلى بقية نصوص القرآن التي استعملت تسمية الدين في وصف المعتقدات الوثنية لقريش، فقال تعالى: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" (الكافرون: 6)، كما وصف القرآن معتقدات أهل الكتاب بأنها دين فقال تعالى: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ" (النساء: 171)، وأقر القرآن وصف المعتقدات المصرية القديمة بأنها دين؛ كما جاء على لسان فرعون الذي أراد من خلالها تسويغ قتل موسى عليه السلام، فقال تعالى: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" (غافر: 26). كذلك نجد كثيراً من العلماء المسلمين القدماء قد استعملوا تسمية الدين لغير دين الإسلام، كما هو حال الأصبهاني في مفرداته، والإمام الغزالي في المنقذ من الضلال، والشهرستاني في الملل والنحل، وغيرهم كثير.

رابعاً: ضرورة التمييز بين التعريف الشرعي والتعريف المعرفي للدين، فمن أشهر التعريفات الشرعية للدين بأنه "وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل". بينما يتسع التعريف المعرفي بعيداً عن محدودية التعريف الشرعي، كما يعرّفه الفارابي بقوله عن الأديان: "هي آراء وأفعال مقدرة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول، يُلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضاً له فيهم أو بهم محدوداً".

ومن الأسئلة المتداولة كذلك: لماذا لا نكتفي بما ذكره القرآن من معلومات وقضايا عن الأديان الأخرى؟ والمتأمل في هذا السؤال يجده يتنافى مع طبيعة النص القرآني الذي يقدم منطلقات وتصورات كلية تؤسس لحركة الإنسان وتدفعه للبحث والاجتهاد. ولا ينوب عن الإنسان في تحصيل المعارف والعلوم، بل إن العلوم الشرعية كعلم الفقه وعلم العقيدة لم تقتصر على النصوص الدينية وإنما اعتمدت كذلك على القياس والمنطق والاستحسان، وغيرها من المصادر المعرفية العقلية.

وفي مجال "علم الأديان" أو ما أطلق عليه السابقون "علم الملل والنحل" نجد القرآن قد ذكر أسماء أتباع خمسة أديان إلى جانب الإسلام، وهم: اليهود، والصابئة، والنصارى، والمجوس، والمشركون، وهي أسماء تتسق والمعرفة الدينية السائدة عند العرب زمن التنزيل. وهذا يعني أن القرآن لم يَذكر جميع الأديان في المجتمعات البشرية، فلا ذكر للأديان البوذية، والكونفوشيوسية، والجينية، والطاوية؛ وأديان أفريقيا وغيرها، وهذا يدل على أن القرآن لم يهدف إلى تناوُل الأديان جميعها، فليس القرآن موسوعة دينية أو تاريخية، وإنما هو كتاب هداية يقدم معالجة لنماذج من الأديان وبعض من مشكلاتها في الجزيرة العربية وجوارها، وهذا يعني أن القرآن ترك مساحة كبيرة للعقل الإنساني لتحصيل المعارف الدينية والاستزادة منها في كل عصر من العصور.

من أهم النماذج الراقية التي عنيت بدراسة الأديان في تاريخنا الإسلامي ولم يدرك عمق غورها العديد من المتصدرين للشأن الديني والثقافي أذكر هنا كتاب البيروني (ت 1048م) (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)، والذي يشتمل على التعريف ببلاد الهند، وتاريخها، ودياناتها، وقد بقي لقرون طويلة أفضل مرجع علمي للدراسات حول الهند في الجامعات الغربية، وقال عنه المستشرق بيلر: "وهو ينظر بعقل الفيلسوف والرياضي العارف بمناهج البحث عند أرسطو وأفلاطون وبطليموس وجالينوس...".

وهذا القول المنصف يؤكد الأثر الكبير للمعرفة الفلسفية والعلمية للبيروني في دراسته القيّمة والنوعية التي قام بها في المجتمع الهندي، ولولا هذه الدراسة الموسوعية وأمثالها من الدراسات ما كان لحضارة الإسلام أن تتعارف وتتلاقح مع حضارة الهند الضاربة في عمق التاريخ، فمن المستحيل نشر تعاليم الإسلام ومنجزاته دون تقديم فهم علمي موضوعي يستوعب حضارة الأمم وثقافاتها المختلفة، وإلا ذاب المسلمون في أمعاء الأمم المتحضرة وما كانوا أفضل حالاً من الغزاة التتار الذين ذابوا في ثقافة المجتمعات الإسلامية، فالذي يميز بين الغزاة الهمجيين ودعاة الحضارة هو ذلك التعارف الذي يسبق ويرافق ذلك التواصل بين الأمم والشعوب.

لقد استوعب البيروني ما كتب العلماء من قبله في الديانات وانتقده وأضاف عليه، وهو يقول في ذلك: "فما وجدت من أصحاب كتب المقالات أحداً قصد الحكاية المجرّدة من غير ميل ولا مداهنة سوى أبي العبّاس الإيرانشهريّ، إذ لم يكن من جميع الأديان في شيء بل منفرداً بمخترع له يدعو إليه، ولقد أحسن في حكاية ما عليه اليهود والنصارى وما يتضمّنه التوراة والإنجيل، وبالغ في ذكر المانويّة وما في كتبهم من خبر الملل المنقرضة، وحين بلغ فرقة الهند والشمنيّة صاف سهمه عن الهدف وطاش في آخره إلى كتاب زرقان ونقل ما فيه إلى كتابه، وما لم ينقل منه فكأنّه مسموع من عوامّ هاتين الطائفتين".

ومن أروع ما جاء به البيروني في سفره العظيم هو استعماله للمنهج الوصفي الموضوعي الذي يتجاوز الجدل والتركيز على الانحرافات والخلل، يقول: "وليس الكتاب كتاب حجاج وجدل حتى أستعمل فيه بإيراد حجج الخصوم ومناقضة الزائغ منهم عن الحقّ، وإنّما هو كتاب حكاية؛ فأورد كلام الهند على وجهه وأضيف إليه ما لليونانيّين من مثله لتعريف المقاربة بينهم، فإنّ فلاسفتهم وإن تحرّوا التّحقيق فإنهم لم يخرجوا فيما اتّصل بعوامّهم عن رموز نحلتهم وموضعات ناموسهم".

واستعمل البيروني المنهج التحليلي في استخلاص أنماط التدين وسماته المختلفة، كما في قوله: "إنّما اختلف اعتقاد الخاصّ والعامّ في كل أمّة بسبب أنّ طباع الخاصّة ينازع المعقول ويقصد التحقيق في الأصول، وطباع العامّة يقف عند المحسوس ويقتنع بالفروع ولا يروم التدقيق". ويدرك البيروني بعقل الفلسفي الناقد أوجه الشبه في أنماط التدين بين العوام من أتباع الأديان والملل فيقول: "ثمّ إن تجاوزنا طبقة الخواصّ من الهند إلى عوامّهم اختلف الأقاويل عندهم وربّما سمجت، كما يوجد مثله في سائر الملل بل وفي الإسلام من التشبيه والإجبار وتحريم النظر في شيء وأمثال ذلك".

وفي نهاية المطاف لا بد لنا أن ندرك وحدة الحضارة البشرية مهما تنوعت ثقافاتها وأديانها ومعتقداتها، وأن نرى في الاختلاف والتنوع بين الأمم والشعوب إلى جانب كونه ينطوي على حكمة إلهية خلق الله الناس عليها، فإنه يدفع إلى التعارف والتكامل الذي يشمل جميع الجوانب المعرفية والحضارية وكل ما يمكن للإنسان أن يقرأه ويتحاور فيه من أفكار ومعتقدات ومنجزات