You are here

أخلاقية الحرب في التفسير التراثي

هل كانت أخلاق الرفق واللين والموادعة واحترام التعددية وحرية الاعتقاد أخلاقاً محمودة عندما احتاجها المسلمون وهم ضعفاء في مكة، ثم تغيرت خارطة الأخلاق عندما أصبحوا أقوياء في المدينة؟ وبعبارة أخرى أكثر شمولاً: هل الأخلاق هي حيلة مصطنَعة يلجأ إليها الضعفاء لحماية أنفسهم من بطش الأقوياء، فإذا انتصروا ونالوا نصيبهم من القوة قفزوا فوق تلك الأخلاق وتخلوا عنها؟ 

تُعدّ معادلة الأخلاق والقوة من أعقد المعادلات في مجتمعاتنا البشرية، وحتى ندخل في عمق المشكلة في سياقنا الإسلامي أذكر هنا قول الإمام الرازي في إشارته لهذه المعضلة بقوله: "لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين، فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع، وأقام من أقام منهم على الشرك، بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حالاً بعد حال، حصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق".

ووفق هذه المقدمة الإشكالية، سأعرض هنا لفهم آية تُعد من أكثر الآيات إشكالاً على سواد المسلمين، ناهيك باستغلالها من المناوئين للإسلام الذين يرمون تعاليمه بالعنف والتمييز تجاه أتباع المعتقدات الأخرى، وهي قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة: 29)، فقد استدل عموم المفسرين والفقهاء بهذه الآية لإدراج أهل الكتاب جميعهم في حالة حرب، على أساس اختلاف معتقداتهم وليس لوقوع العدوان منهم! وهنا تكمن المشكلة الأولى؛ حيث فهم عموم المفسرين أن سبب قتال أهل الكتاب في الآية يعود إلى أوصاف "دينية" أربعة، وهي أنهم: لا يؤمنون بالله، لا يؤمنون باليوم الآخر، لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، وهذ ما صرّح به ابن كثير بقوله: "اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة، وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا، أو إلى أن يعطوا الجزية".

والمشكلة الثانية: معارضة نفي الآية لهذه المعتقدات عن أهل الكتاب وما يؤمن به عمومهم أو ما جاءت به تعاليم أديانهم، بالإضافة إلى مخالفة ذلك النفي مع ما ذكره القرآن عنهم! وهذا ما جعل المفسرين يقعون في حيرة وتأويلات متعسفة، كما يقول ابن عاشور: "ولم يُعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء. وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية، فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به...".

فكيف يخبرنا القرآن بإيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر، كما في قوله: ﴿لَيۡسُواْ سَوَآءٗۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ أُمَّةٞ قَآئِمَةٞ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ وَهُمۡ يَسۡجُدُونَ. يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ. وَمَا يَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلَن يُكۡفَرُوهُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلۡمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 113- 115). ويأمر المسلمين بحسن الكلام والابتعاد عن الجدل معهم: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 46)، ثم يعلن الحرب عليهم دون وقوع عدوان أو ظلم منهم!

لا تقوم مشروعية القتال في القرآن، وفق النظرة القرآنية الشمولية، على وجود اختلاف في المقولات والأفكار العقدية، وإنما تقوم على وقوع الظلم والعدوان منهم، وهذا ليس رأياً فقهياً وإنما تقريرٌ للأسس الأخلاقية والإنسانية التي نصّ عليها القرآن، ومنها: 

- أصالة السلم في العلاقة بين الناس: "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (النساء: 94). 

- بطلان الإكراه الديني: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256). 

- تقرير حق الاعتقاد: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف: 34). 

- احترام التعددية الدينية: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" (الكافرون: 6). 

- رفض الوصاية على معتقدات الناس: "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية: 21-22). 

- لا سلطة للإنسان على عقائد الناس، واختصاص ذلك بالله وحده يوم القيامة: "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (السجدة: 25). 

ووفق هذه الأسس لا يجوز أن تخرج أحكام القتال هذه عن المبادئ الاجتماعية والأخلاقية، والتي تقوم على أساس العدل والموادعة وكف الأذى. فالآية تخص الظالمين والمحاربين والناقضين للعهود من أهل الكتاب، ولا تشمل غير المعتدين الذي أكد القرآن حسن العلاقة معهم.

لقد جاء الإذن بالقتال معللاً في أول آية نزلت في الإذن بالقتال بعد قرابة خمسة عشر عاماً من نزول القرآن، وهي قوله تعالى: {أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا...} (الحج: 39)؛ فلا قتال دون عدوان ولا حرب دون وقوع الظلم والإخراج من الديار وضياع الحقوق، ويبقى هذا التعليل حاضراً في فهم جميع آيات القتال في القرآن.

لا يقوم القتال في الإسلام على اختلاف المقولات العقدية، وإنما يتصل بالظلم والطغيان، كما في قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة: 190)، وقوله "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" لا يحتمل النسخ، فهذا مبدأ كلي في العلاقات الإنسانية، إلى جانب كونه خلقاً محبوباً من الله في كل وقت وحين. 

فالحرب تكون صحيحة أخلاقية عندما تقتصر على الدفاع عن النفس {ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ}، خلافاً للحرب التي تقوم على العدوان والمبادأة في القتال. ويؤكد ذلك ما جاء في الآيات التي تدعو إلى قبول السلم والتوقف عن القتال: "وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا" (الأنفال: 61).

إن بناء موقف ديني موضوعي تجاه مسألة كبرى تتوقف عليها حياة المجتمعات ومستقبلها لا يمكن أن يتقرر من خلال فهم مجتزأ لآية واحدة، بعيداً عن فهم التصورات الكبرى التي أكد عليها القرآن. وهنا يجب أن نأخذ بالاعتبار سياق الأحداث التاريخية التي نزلت فيها الآية، وفقه الأعراف السائدة بين المجتمعات، وما شهده المجتمع المسلم من تغيرات وتحديات. لكننا في الوقت ذاته أحوج ما نكون إلى دراسات تفسيرية نقدية تُعيد النظر في الأسس العامة للتفسير ومدى انسجامها والمبادئ الأخلاقية والإنسانية التي نادى بها الإسلام. وإذا كان المفسرون قد انشغلوا طيلة قرون طويلة بمشكلة العِبرة بين خصوص السبب وعموم اللفظ، فإننا اليوم أحوج ما نكون إلى البحث في جدليات أخرى تتدارك المساحة المتسعة بين ظرفية الأحكام الفقهية وتقديس التراث من ناحية، وبين عالمية القيم الأخلاقية وضرورة التجديد من ناحية ثانية.

 د. عامر الحافي، أستاذ مشارك في كلية الشريعة في جامعة آل البيت تخصص عقيدة إسلامية ومقارنة أديان، والمستشار الأكاديمي للمعهد الملكي للدراسات الدينية في الأردن وعضو الهيئة الاستشارية لمركز النجاح للدراسات الدينية.

20-05-2025